السؤال:
مشكلتي أني منذ أن التزمت ولي سبع سنوات الآن وتقريبًا في الصف الأول ثانوي جلست أستمع لأشرطة كثيرة وأكثرها الترهيب والتذكير بالموت وترك الدنيا وما فيها وهذا ولّد عندي ما أسميها رهبانية فقد تكاسلت كثيرا في موادي العلمية وركزت على الدينية مع أن تخصصي علمي وقد حاولت أكثر من مرة أن أسأل مدرسينا عن المواد العلمية وفائدتها فلا يجيبني أحد بإجابة شافية، وظللت مترديا في المواد العلمية وشبح الموت يطاردني في كل يوم وتشكلت لي قناعة أن المواد العلمية لا تفيدني في الآخرة وأن العلم هو العلم الشرعي، وقد حاولت أن أقاوم هذه الفكرة ونجحت نسبيا ونجحت في المرحلة الثانوية ودخلت الجامعة في كلية الهندسة ولا زالت الفكرة تراودني كل يوم فإذا توفي أحد زملائي أو أقربائي فإني أراجع نفسي وأسأل نفسي (لماذا دخلت تخصص علمي؟!) فإذا مر وقت طويل بعد حالة الوفاة أبدأ أستنهض نفسي، وكذلك إذا قرأت في الكتب العلمية فإني ألخص وأكتب فوائد وأكتشف أشياء جديدة إلى أن تأتي إليّ نفسي وتقول: (لا تتعمق في هذا العلم فإنه ينسيك الدار الآخرة).. أرجوكم أن تساعدوني في حل مشكلتي هذه فإنها تؤرقني كثيرًا وشكرًا لكم.
الجواب:
أخي الكريم: القبر لا يعرف مهندسًا أو طبيبًا أو ما هي وظيفة داخله وما هو مؤهله، ومنكر ونكير لا يعنيهما ذلك، ولن يسألا المرء ماذا درس، والجنة والنار لا يعرض عليها الناس بالتخصصات العلمية التي درسوا؛ بل جاء في الأثر أول من تسعر بهم النار أربع وفي رواية صححها الألباني عند النسائي: «أول الناس يقضى لهم يوم القيامة ثلاثة وذكر منهم رجلًا تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. فقال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار...» الحديث.
والشاهد أن أمر النجاة ليس مكفولًا لمن درس علوم الشريعة، والجنة ليست حكرًا على هؤلاء ورحمة الله واسعة فلا تحجر على نفسك وعلى الناس واسعًا.
ثم تأمل أخي الكريم في خير هذه الأمة في القرون الثلاثة المفضلة تجد أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم لم يعرفوا بكثير رواية بينما تميز في الرواية والدراية غيرهم رضوان الله عليهم وكلًّا وعد الله الحسنى.
وللجنة أبواب بعضها يدخل منه المختصون بعبادة واحدة كالريان يدخل منه الصائمون كيف كانت تخصصاتهم.
وهكذا السلف الصالح رحمة الله عليهم تجد منهم القزاز والبزاز والبزار والقصاب والقصار والنجار وغيرهم من أصحاب المهن والحرف التي تتطلب علمًا دنيويًّا، ومع ذلك لم يمنعهم هذا العلم عن تعلم العلم الشرعي الواجب، بل لم يمنع بعضهم من تحصيل العلم الذي جعلهم أئمة مبرزين، فليس هناك تلازم بين التخصص ومعرفة علم الشريعة بحيث يستحيل على المتخصص في بعض المهن أو الحرف الدنيوية إدراك شأو بعيد في علم الشريعة.
وكذلك اليوم ليس علم الشريعة حكرًا على من درسوا في الجامعات الشرعية بل إذا تأملت وجدت من طلاب العلم بل المشايخ المبرزين أطباء ومهندسين واقتصاديين وبعض هؤلاء قد جمع إلى تخصصه التجريبي تخصصًا شرعيًّا وكل هذا متاح لك فحلق المشايخ والعلماء تخرج من لا تخرجهم الجامعات، بل الجامعة قد تعطي شهادة شرعية لكنها قد لا تخرج طالب علم، بخلاف الذي يحرص على بناء نفسه بناءً علميًّا يتخرج فيه على أيدي المشايخ والعلماء فمثل هذا يفوق كثيرًا من أصحاب الشهادات الشرعية.
وغاية الكلية الشرعية أن تهيئ للجاد مناخًا صالحًا لطَلَبِ العلم يمكن أن يستثمره في غرس قاعدة شرعية، وهذا المناخ يمكن أن تضعه لنفسك بمشاورتك المختصين من أهل العلم، بل يسعك أن تصنع خيرًا من مناخ بعض الجامعات وتنتقي من حلق المشايخ الراسخين من قد لا يجدهم طالب الجامعة.
بل يسعك وأنت في هندستك أو كليتك التجريبية أن تكون عالمًا بالشريعة راسخًا في علمها، غير أن هذا يتطلب عزيمة وصبرًا وجهدًا عظيمًا لا لأن دراسة الهندسة صعبة! بل لأن التضلع في العلم الشرعي شاق وطريقه طويل طويل وليست الدراسة الجامعية غير أول خطواته، وقد ذكر بعض المجربين ممن درسوا الهندسة أنه لا مقارنة في تقديره بين حل بعض مسائل هذه وفقًا لقوانين معروفة وقواعد ثابتة، وبين التضلع في علم الشريعة وحل معضلات المسائل ولاسيما مع تعقيدات الواقع، فأنت إن كان هدفك التبحر في علم الشريعة والخوض في لُجَّتِها العظمى فجرد نفسك له، وهيئ لنفسك برنامج حياة، أما إن أردت ما يحصله طالب الكلية الشرعية فالجمع يسير على من يسره الله عليه، والموفَّق من وفَّقه الله.
فإن أنت أفلحت في وضع برنامج علمي- وقد أفلح في هذا غيرك- حققت بغيتك وهدفك، وتميزت عمن درس العلم الشرعي مجردًا بخدمة أمتك في باب من أبواب العلوم التي تحتاجها وتفتقر إليها، فإن أحسنت النية وأصلحت القصد لم يُبارِكَ متخرج الكلية الشرعية الذي تحسن ما يحسن من العلم، ولا يُحسن ما تحسنه أنت من العلوم الدنيوية التي تحتاجها الأمة.
ولو لم يتيسر لك إلاّ علم الهندسة فليكن عزاؤك أن الأمة لا يستقيم أمرها إلا بوجود المتخصصين في العلوم التي تحتاجها، والصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا جميعًا علماء مبرزين في العلوم الشرعية على علو منازلهم، فلم الأسى والحزن وأمل الجمع بين الخيارين ممكن؟ فإن شق هذا لظرف ما أثناء دراسة الهندسة فقد يسعك أن تدرس العلم الشرعي بعد التخرج.
وأكرر أخيرًا ما بدأت به من أن النجاة في الآخرة ليست منوطة بدخول كلية شرعية، وأن الأمة بحاجة ماسة إلى أطباء ومهندسين وغيرهم ممن يسهمون في رفعتها ويكفونها مئونة الاعتماد على أعدائها بل قد يكون تعلم بعض هذه العلوم من فروض الكفايات التي يأثم مجموع الأمة إذا لم يقم بسده أنت وأمثالك.
فلو قدر أن كافة الأمة درست الشريعة وأغفلت ما سواها من العلوم التجريبية والمهنية لأصبحت عالة على الأمم، غير قادرة على إقامة دين الله، آثمة لتركها الأخذ بأسباب إقامة الدين وعمارة الأرض والحياة التي أمر الله بأخذ أسبابها جملة، وإنما يرفع الإثم أنت وأمثالك من أصحاب العلوم التجريبية والحرف والمهن التي لا غناء للأمة عنها، فأخلص النية يكتب لك بإذن الله الأجر.
هذا وأسأل الله أن ينفع بك الإسلام والمسلمين وأن يجمع لك بين علم الدنيا والدين، فَجِدّ واجتهد وثابر فإن لكل مجتهد نصيب.
الكاتب: إبراهيم الأزرق.
المصدر: موقع المسلم.